فصل: كُسوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


كُرْكيّ

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏

كُرْه

التعريف

1 - الكره في اللّغة - بضمّ الكاف وفتحها - المشقة، وهو مصدر من كرهت الشيء أكرهه كُرهاً - بالضمّ والفتح - ضدّ أحببته فهو مكروه‏.‏

وذهب كثير من أهل اللّغة إلى أنّ الكَره والكُره لغتان، فبأيّ لغة وقع فهو جائز، إلا الفراء فإنّه زعم أنّ الكره - بالضمّ - ما أكرهت نفسك عليه، والكَره - بالفتح - ما أكرهك غيرك عليه‏.‏

وفي المصباح‏:‏ الكره - بالفتح - المشقة، وبالضمّ‏:‏ القهر، وقيل‏:‏ بالفتح‏:‏ الإكراه، وبالضمّ المشقة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البغض‏:‏

2 - البغض في اللّغة‏:‏ نقيض الحبّ، وبَغَض الشيء بغضاً‏:‏ مقته وكرهه، وبَغُض الرجل - بالضمّ - بَغَاضةً، أي صار بغيضًا، وبغّضه الله إلى الناس تبغيضًا فأبغضوه، أي مقتوه‏.‏ وفي المفردات‏:‏ البغض‏:‏ نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، وهو ضدّ الحبّ‏.‏

وقد فرق أبو هلال العسكريّ بين الكراهة والبغض فقال‏:‏ إنّه قد اتسع بالبغض ما لم يتسع بالكراهة، فقيل‏:‏ أبغض زيداً أي أبغض إكرامه ونفعه، ولا يقال‏:‏ أكرهه بهذا المعنى، ومع هذا فإنّ الكراهة تستعمل فيما لا يستعمل فيه البغض، فيقال‏:‏ أكره هذا الطعام ولا يقال أبغضه، والمراد أنّي أكره أكله‏.‏

ب - الحبّ‏:‏

3 - الحبّ في اللّغة‏:‏ نقيض البغض، والحبّ‏:‏ الوداد والمحبة، وأحبّه فهو محبّ وحَبَّه يُحِبُّه - بالكسر - فهو محبوب، وتحبب إليه‏:‏ تودد‏.‏

والحبّ نقيض الكره‏.‏

أنواع الكُره

4 - جاء في المفردات‏:‏ الكره على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يعاف من حيث الطبع‏.‏

والثاني‏:‏ ما يُعاف من حيث العقل أو الشرع‏.‏

ولهذا يصحّ أن يقول الإنسان في الشيء الواحد‏:‏ إنّي أريده وأكرهه، بمعنى أنّي أريده من حيث الطبع، وأكرهه من حيث العقل أو الشرع، وأريده من حيث العقل أو الشرع، وأكرهه من حيث الطبع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏، أي تكرهونه من حيث الطبع‏.‏

وقد قال القرطبيّ في تفسير هذه الآية‏:‏ كان الجهاد كرهاً لأنّ فيه إخراج المال ومفارقة الأهل والوطن، والتعرّض بالجسد للشّجاج والجراح وذهاب النفس فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنّهم كرهوا فرض الله‏.‏

الحكم التكليفيّ

5 - الكره قد يكون واجباً ككره الكفر وكره المعصية ولذلك كان من فضل الله على المؤمنين أنّه كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان‏.‏

ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»‏.‏

وقد يكون الكره حراماً ككره الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو الصالحين، ويدخل في ذلك كراهة النّعمة عند الغير وحبّ زوالها عن المنعم عليه‏.‏

وقد يكون الكُره مباحاً ككراهة المقضيّ به إن كان معصيةً ‏;‏ لأنّ الإنسان مطالب بالرّضا بالقضاء مطلقاً، أما المقضيّ به فإن كان طاعةً فالواجب الرّضا بالقضاء والمقضيّ به جميعاً، وإن كان المقضيّ به معصيةً فليرض بالقضاء ولا يرضى بالمقضيّ به بل يكرهه‏.‏

يقول القرافيّ‏:‏ اعلم أنّ السخط بالقضاء حرام إجماعاً والرّضا بالقضاء واجب إجماعاً بخلاف المقضيّ به، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء بل عدم رضا بالمقضيّ ونحن لم نؤمر بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه، ولم يؤمر الأرمد باستطابة الرمد المؤلم ولا غيره من المرض، بل ذم الله قوماً لا يتألمون ولا يجدون للبأساء وقعاً فذمهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏، فمن لم يستكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير، فالمقضيّ والمقدور أثر القضاء والقدر، فالواجب هو الرّضا بالقضاء فقط، أما المقضيّ فقد يكون الرّضا به واجباً كالإيمان بالله تعالى والواجبات إذا قدرها الله تعالى للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات وحراماً في المحرمات، ومباحاً في المباحات، وأما الرّضا بالقضاء فواجب على الإطلاق، وقد «حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموت ولده إبراهيم ورمي السيّدة عائشة بما رميت به» إلى غير ذلك ‏;‏ لأنّ هذا كله من المقضيّ، والأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسرّ بالمسرات، وإذا كان الرّضا بالمقضيّ به غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى‏.‏

ومن الكره المباح ما ينقص الإنسان من المباحات، يقول الغزاليّ‏:‏ لا حرج على من يكره تخلّف نفسه ونقصانها في المباحات‏.‏

أثر الكره في العقيدة

6 - من كره الإسلام، أو كره الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يعتبر كافراً ويقتل من ظهر منه ذلك إن لم يتب‏.‏

أما بغض الأنصار والصحابة رضوان الله عليهم فإذا كان كرهه لهم من حيث إعزازهم الدين وبذلهم النفس والمال في نصرة الإسلام ونصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فمن كرههم من هذه الحيثية فهو كافر، أما من كرههم لذواتهم فهو عاص‏.‏

أثر الكره في الإمامة في الصلاة

7 - ذهب الفقهاء إلى كراهة التصدّي للإمامة إذا كان القوم يكرهونه لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم‏:‏ العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون»‏.‏

قال الحنفية‏:‏ إن كان القوم يكرهونه لفساد فيه أو لأنّهم أحقّ بالإمامة منه كره ذلك تحريماً، وإن كان هو الأحق بالإمامة فلا يكره والكراهة عليهم‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن كرهه أقلّ القوم ولو غير ذوي الفضل منهم لتلبّسه بالأمور المزرية الموجبة للزّهد فيه والكراهة له أو لتساهله في ترك السّنن كالوتر والعيدين وترك النّوافل كرهت إمامته، أما إذا كرهه كلّ القوم أو جلّهم أو ذوو الفضل منهم وإن قلّوا فتحرم إمامته لحديث أبي أمامة، ولقول عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لأن تضرب عنقي أحبّ إلي من ذلك‏.‏ وقال الشافعية‏:‏ يكره تنزيهاً أن يؤم الرجل قوماً أكثرهم له كارهون لأمر مذموم شرعاً كوال ظالم أو متغلّب على إمامة الصلاة ولا يستحقّها أو لا يحترز من النّجاسة، أو يمحو هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشةً مذمومةً، أو يعاشر الفسقة أو نحوهم وإن نصبه لها الإمام الأعظم، لحديث‏:‏ «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم‏.‏‏.‏‏.‏» ومنهم‏:‏ «إمام قوم وهم له كارهون»‏.‏

والأكثر في حكم الكلّ، وإنّما كان الحكم لكره الأكثر لا الأقلّ لأنّهم يختلفون هل يتصف الإمام بما يجعله مكروهاً أم لا، فيعتبر قول الأكثر لأنّه من باب الرّواية، أما إذا كرهه دون الأكثر لا لأمر مذموم فلا تكره له الإمامة‏.‏

ونقل الشّربينيّ الخطيب أنّه يكره أن يولّي الإمام الأعظم على قوم رجلاً يكرهه أكثرهم نص عليه الشافعيّ ولا يكره إن كرهه دون الأكثر بخلاف الإمامة العظمى فإنّها، تكره إذا كرهها البعض‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يكره أن يؤم رجل قوماً أكثرهم له كارهون إذا كانت كراهتهم له بحقّ كخلل في دينه أو فضله للحديث، فإن كرهوه بغير حقّ لم يكره أن يؤمهم، وذلك بأن كان ذا دين وسنّة، قال منصور‏:‏ إنّا سألنا أمر الإمامة فقيل لنا‏:‏ إنّما عنى بهذا الظلمة، فأما من أقام السّنّة فإنّما الإثم على من كرهه‏.‏

وهذا بالنّسبة للأكثر من القوم أما الأقلّ فقد قال الإمام أحمد‏:‏ إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس حتى يكرهه أكثر القوم‏.‏

أثر كره أحد الزوجين للآخر

8 - إذا كره الزوج زوجته لدمامة أو سوء خلق أو سوء عشرة من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز فإنّه يندب له احتمالها وعدم فراقها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيراً‏}‏‏.‏

أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدّنيا والآخرة ‏;‏ إذ عسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزقه الله منها أولاداً صالحين، ومن هذا المعنى ما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يفرك مؤمن مؤمنةً إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» أي لا يبغضها بغضاً كلّيّاً يحمله على فراقها، بل يغفر سيّئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحبّ‏.‏

أما إذا كره الزوج زوجته لكونها غير عفيفة أو لتفريطها في حقوق الله تعالى الواجبة عليها مثل الصلاة ونحوها ولا يمكنه إجبارها عليها، فلا ينبغي له إمساكها لأنّ فيه نقصاً لدينه ولا يأمن إفسادها لفراشه وإلحاقها به ولداً ليس هو منه، وقد روي «أنّ رجلاً أتى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّ امرأتي لا تردّ يد لامس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ طلّقها»‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏‏.‏

وإذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة أو كبره أو ضعفه وخشيت ألا تؤدّي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏، وقد ورد‏:‏ «أنّ امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أنّي أخاف الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفتردين عليه حديقته‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم، فردت عليه وأمره ففارقها»، فإن خالعته لغير بغض كره لها ذلك‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏خلع ف / 9‏)‏‏.‏

كَسَاد

انظر‏:‏ نقود‏.‏

كَسْب

التعريف

1 - الكسب في اللّغة‏:‏ مصدر كسب، يقال‏:‏ كسب مالاً أي ربحه واكتسب كذلك، وكسب لأهله واكتسب‏:‏ طلب المعيشة، وكسب الإثم واكتسبه‏:‏ تحمله‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحِرفة‏:‏

2 - الحرفة - بالكسر - في اللّغة‏:‏ الطّعمة، والصّناعة يرتزق منها، وكلّ ما اشتغل الإنسان ورضي به يسمى صنعةً وحرفةً ‏;‏ لأنّه يتحرف إليها‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللّغويّ، قال الرمليّ‏:‏ الحرفة ما يتحرف به لطلب الرّزق من الصنائع وغيرها‏.‏

والصّلة بين الحرفة والكسب هي أنّ الكسب أعمّ من الحرفة ‏;‏ لأنّ الكسب قد يكون حرفةً وقد لا يكون‏.‏

ب - الرّبح‏:‏

3 - الرّبح في اللّغة‏:‏ المكسب‏.‏

قال الأزهريّ‏:‏ ربح في تجارته‏:‏ إذا أفضل فيها‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والصّلة بين الرّبح والكسب أنّ الرّبح ثمرة الكسب‏.‏

ج - الغنى‏:‏

4 - الغنى بالكسر والقصر في اللّغة‏:‏ اليسار‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ إلا أنّه عند الفقهاء أنواع‏.‏

والصّلة بين الغنى والكسب أنّ الكسب وسيلة من وسائل الغنى‏.‏

الحكم التكليفيّ

5 - الكسب قد يكون فرضاً، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ونفقة من يجب عليه نفقته، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته»، فإن ترك الاكتساب بعد ذلك وسعه، وإن اكتسب ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة، فقد صح «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنتهم»‏.‏

وقد يكون الكسب مستحبّاً، وهو كسب ما زاد على أقلّ الكفاية ليواسي به فقيراً أو يصل به قريباً‏.‏

ويباح كسب الحلال لزيادة المال والجاه والترفّه والتنعم والتوسعة على العيال مع سلامة الدّين والعرض والمروءة وبراءة الذّمة ‏;‏ لأنّه لا مفسدة فيه إذن‏.‏

وأما الكسب للتفاخر والتكاثر - وإن كان من حلّ - فهو مكروه عند الحنفية، وصرح الحنابلة بحرمته لما فيه من التعاظم المفضي إلى هلاك صاحبه دنيا وأخرى‏.‏

آداب الكسب

6 - قال أبو الليث السمرقنديّ‏:‏ من أراد أن يكون كسبه طيّباً فعليه أن يحفظ خمسة أشياء‏:‏ أولها‏:‏ أن لا يؤخّر شيئاً من فرائض الله تعالى لأجل الكسب، ولا يدخل النقص فيها‏.‏ والثاني‏:‏ أن لا يؤذي أحداً من خلق الله لأجل الكسب‏.‏

والثالث‏:‏ أن يقصد بكسبه استعفافاً لنفسه ولعياله، ولا يقصد به الجمع والكثرة‏.‏

الرابع‏:‏ أن لا يجهد نفسه في الكسب جدّاً‏.‏

والخامس‏:‏ أن لا يرى رزقه من الكسب، ويرى الرّزق من الله تعالى، والكسب سبباً‏.‏

كما يجب على كلّ مسلم مكتسب تحصيل علم الكسب، وذلك لمعرفة أحكام العقود التي لا تنفكّ المكاسب عنها، وهي البيع والرّبا والسلم والإجارة والشركة والقراض، ومهما حصل علم هذه العقود وقف المكتسب على مفسدات المعاملة فيتقيها‏.‏

المفاضلة بين الكسب وبين التفرّغ للعبادة

7 - اختلف الفقهاء في المفاضلة بين الاشتغال بالكسب والتفرّغ للعبادة بعد تحصيل ما لا بد للمرء منه‏:‏

فذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الكسب الذي لا يقصد به التكاثر، وإنّما يقصد به التوسّل إلى طاعة الله، من صلة الإخوان والتعفّف عن وجوه الناس، هو أفضل من التفرّغ للعبادة من الصلاة والصوم والحجّ ‏;‏ لأنّ منفعة الاكتساب أعمّ، فإنّ ما اكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادةً، والذي يشتغل بالعبادة إنّما ينفع نفسه ‏;‏ لأنّه بفعله يحصّل النّجاة لنفسه والثواب لجسمه، وما كان أعم فهو أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الناس أنفعهم للناس»، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرّغ للعبادة ‏;‏ لأنّ منفعة ذلك أعمّ، ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلّي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ‏;‏ لأنّ ذلك أعمّ نفعاً، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «العبادة عشرة أجزاء» وقوله عليه السلام‏:‏ «الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال»، يعني طلب الحلال للإنفاق على العيال، والدليل عليه أنّه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحجّ والصدقة وبرّ الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب، وفي التفرّغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة‏.‏

ويرى الحنفية على الأصحّ أنّ التفرّغ للعبادة أفضل ‏;‏ لأنّ الأنبياء والرّسل عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات، ولا يخفى على أحد أنّ اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب، ومعلوم أنّهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات، ولا شك أنّ أعلى مناهج الدّين طريق المرسلين عليهم السلام، وكذا الناس في العادة إذا حزبهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم فيشتغلون بالعبادة لا بالكسب، والناس إنّما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين‏.‏

المفاضلة بين الغنى والفقر

8 - اختلف الفقهاء في المفاضلة بين الغنى والفقر، مع اتّفاقهم على أنّ ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر ‏;‏ لأنّ الغني مقتدر، والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من غلب عليه حبّ النّباهة‏.‏

وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى ‏;‏ لأنّ الفقير تارك، والغني ملابس، وترك الدّنيا أفضل من ملابستها، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من غلب عليه حبّ السلامة‏.‏

والمذهب عند الحنفية أنّ صفة الفقر أعلى‏.‏

وذهب آخرون إلى تفضيل التوسّط بين الأمرين بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى، ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال، وأنّ خيار الأمور أوساطها‏.‏

التوفيق بين كسب الرّزق وبين التوكّل

9 - جاء في المبسوط‏:‏ المذهب عند جمهور الفقهاء من أهل السّنّة والجماعة أنّ الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة‏.‏

وتقصير الإنسان عن طلب كفايته - كما قال الماورديّ - قد يكون على ثلاثة أوجه‏:‏

فيكون تارةً كسلاً، وتارةً توكّلاً، وتارةً زهداً وتقنّعاً ‏.‏

فإن كان تقصيره لكسل فقد حرم ثروة النّشاط ومرح الاغتباط، فلن يُعْدَمَ أن يكون كَلّاً قصيّاً أو ضائعاً شقيّاً‏.‏

وإن كان تقصيره لتوكّل فذلك عجز قد أعذر به نفسه، وتركُ حزم قد غير اسمه، لأنّ الله تعالى أمر بالتوكّل عند انقطاع الحيل والتسليم إلى القضاء بعد الإعذار، فقد روى سفيان عن أيّوب عن أبي قلابة رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرافق بين أصحابه رفقاء، فجاءت رفقة يهرفون برجل يقولون‏:‏ ما رأينا مثل فلان، إن نزلنا فصلاة وإن ركبنا فقراءة، ولا يفطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان يرحل له، ومن كان يعمل له‏؟‏ وذكر أشياء فقالوا‏:‏ نحن، فقال‏:‏ كلّكم خير منه»‏.‏

وجاء في المبسوط‏:‏ قال قوم‏:‏ إنّ الكسب ينفي التوكّل على الله أو ينقص منه، وقد أمرنا بالتوكّل قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فما يتضمن نفي ما أمر به من التوكّل يكون حراماً، والدليل على أنّه ينفي التوكّل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنّكم كنتم توكلون على الله حق توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»‏.‏ وهو قول مردود‏.‏

أنواع الكسب

10 - إنّ حاجة الإنسان للمادة لازمة لا يعرى منها بشر، فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه ‏;‏ لأنّ الشيء القائم بغيره يكمل بكماله، ويختلّ باختلاله، ثم لما كانت الموادّ مطلوبةً لحاجة الكافة إليها، أعوزت بغير طلب‏.‏

ثم إنّه جلت قدرته جعل سد حاجة الناس وتوصّلهم إلى منافعهم من وجهين‏:‏ بمادة وكسب‏.‏ فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية بذواتها‏.‏

وأما الكسب فيكون بالأفعال الموصّلة إلى المادة، والتصرّف المؤدّي إلى الحاجة، وذلك من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ تقلّب في تجارة، والثاني‏:‏ تصرّف في صناعة، وهذان الوجهان هما فرع لوجهي المادة، فصارت أسباب الموادّ المألوفة وجهات المكاسب المعروفة من أربعة أوجه‏:‏ نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة‏.‏

المفاضلة بين أنواع المكاسب المختلفة

11 - قال السرخسيّ‏:‏ المكاسب أربعة‏:‏

الإجارة والتّجارة والزّراعة والصّناعة وكلّ ذلك في الإباحة سواء‏.‏

وصرح الحنفية بأنّ أفضل أنواع الكسب الجهاد ‏;‏ لأنّ فيه الجمع بين حصول الكسب وإعزاز الدّين وقهر عدوّ الله‏.‏

ثم اختلف مشايخ الحنفية في المفاضلة بين التّجارة والزّراعة‏:‏ فذهب الأكثرون إلى أنّ الزّراعة أفضل من التّجارة لأنّها أعمّ نفعاً، فبعمل الزّراعة يحصل ما يقيم به المرء صلبه، ويتقوى على الطاعة، وبالتّجارة لا يحصل ذلك ولكن ينمو المال، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الناس أنفعهم للناس»، والاشتغال بما يكون نفعه أعمّ يكون أفضل ‏;‏ ولأنّ الصدقة في الزّراعة أظهر، فلا بد أن يتناول مما يكتسبه الزّراع الناس والدوابّ والطّيور، وكلّ ذلك صدقة له، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ التّجارة أفضل من الزّراعة‏.‏

وتأتي الصّناعة بعد الجهاد والزّراعة والتّجارة‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ أصول المكاسب‏:‏ الزّراعة والتّجارة والصنعة، وأيّها أطيب‏؟‏ فيه ثلاثة مذاهب للناس‏:‏ أشبهها مذهب الشافعيّ‏:‏ أنّ التّجارة أطيب، قال الماورديّ‏:‏ والأشبه عندي‏:‏ أنّ الزّراعة أطيب ‏;‏ لأنّها أقرب إلى التوكّل‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أكل أحد طعاماً قطّ خيراً من أن يأكل من عمل يده وإنّ نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»، فهذا صريح في ترجيح الزّراعة والصنعة ‏;‏ لكونهما من عمل يده، لكنّ الزّراعة أفضلهما لعموم النفع بها للآدميّ وغيره وعموم الحاجة إليها‏.‏

سؤال القادر على الكسب

12 - الأصل أنّ سؤال المال، والمنفعة الدّنيوية ممن لا حق له فيه أي في المسئول منهما حرام ‏;‏ لأنّه لا ينفكّ عن ثلاثة أمور محرمة‏:‏

أحدها‏:‏ إظهار الشكوى‏.‏

والثاني‏:‏ إذلال نفسه، وما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه‏.‏

والثالث‏:‏ إيذاء المسئول غالباً‏.‏

وإنّما يباح السّؤال في حالة الضرورة والحاجة المهمة القريبة من الضرورة‏.‏

وإن كان المحتاج بحيث يقدر على التكسّب فعليه أن يكتسب، ولا يحلّ له أن يسأل لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من سأل وهو غنيّ عن المسألة يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه»‏.‏

وورد أنّ عبد الله بن عديّ بن الخيار قال‏:‏ «أخبرني رجلان أنّهما أتيا النّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال‏:‏ إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب» معناه لا حق لهما في السّؤال، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سويّ» يعني لا يحلّ السّؤال للقويّ القادر على التكسّب، ولكنّه لو سأل فأعطي حل له أن يتناول، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن شئتما أعطيتكما» فلو كان لا يحلّ التناول لما قال صلى الله عليه وسلم لهما ذلك‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء‏}‏ والقادر على الكسب فقير هذا عند الحنفية‏.‏ ويرى أكثر أهل العلم أنّ الزكاة لا تحلّ لغنيّ ولا لقويّ يقدر على الكسب‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ واتفقوا على النهي عن السّؤال بلا ضرورة، وفي القادر على الكسب وجهان‏:‏ أصحّهما أنّه حرام، والثاني يحلّ بشرط أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السّؤال، ولا يؤذي المسئول، وإلا حرم اتّفاقاً‏.‏

وإذا كان المحتاج عاجزاً عن الكسب، ولكنّه قادر على أن يخرج فيطوف على الأبواب ويسأل، فإنّه يفترض عليه ذلك، فإذا لم يفعل ذلك حتى هلك كان إثماً عند أهل الفقه ‏;‏ لأنّه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فإنّ السّؤال يوصله إلى ما يقوّم به نفسه في هذه الحالة كالكسب، ولا ذل في هذه الحالة، فقد أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام وصاحبه أنّهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏.‏

وقال بعض المتقشّفة‏:‏ السّؤال مباح له بطريق الرّخصة، فإن تركه حتى مات لم يكن إثماً‏;‏ لأنّه متمسّك بالعزيمة‏.‏

ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت، ففرض على كلّ من علم به أن يطعمه، أو يدل عليه من يطعمه ‏;‏ صوناً له عن الهلاك، فإن امتنعوا عن ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما أمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» وإن أطعمه واحد سقط الإثم عن الباقين‏.‏

نفقة القريب العاجز عن الكسب

13 - اختلف الفقهاء في وجوب النفقة للفقير القادر على الكسب على من تجب عليه نفقته‏.‏ فذهب الجمهور إلى أنّ النفقة لا تجب للفقير إلا إذا كان عاجزاً عن الكسب حقيقةً أو حكماً‏.‏ وخالف الحنفية في الأبوين وقالوا‏:‏ تجب النفقة لهما إذا كانا فقيرين وإن قدرا على الكسب‏;‏ لأنّهما يتضرران بالكسب، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إن قدر القريب الفقير على الكسب فأقوال، أظهرها كما قال النّوويّ‏:‏ تجب لأصل دون فرع‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

إجبار المفلّس على التكسّب

14 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه ليس على المفلّس بعد القسمة أن يكتسب أو يؤجّر نفسه لوفاء ما بقي عليه من الدين ولو كان قادراً عليه، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏، أمر بإنظاره ولم يأمر باكتسابه، وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه «أنّ رجلاً أصيب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه‏:‏ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»‏.‏

ولأنّ هذا تكسّب للمال فلم يجبره عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر‏.‏

وأضاف الشافعية‏:‏ أنّه إن وجب الدين بسبب عصى به - كإتلاف مال الغير عمداً - وجب عليه الاكتساب، وأمر به، ولو بإيجار نفسه، لأنّ التوبة من ذلك واجبة، وهي متوقّفة في حقوق الآدميّين على الردّ‏.‏

ويرى الحنابلة في المذهب عندهم أنّه يجبر على الكسب، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار العنبريّ وإسحاق، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم «باع سرّقاً في دينه، وكان سُرّق رجلاً دخل المدينة، وذكر أنّ وراءه مالاً، فداينه الناس، فركبته ديون ولم يكن وراءه مال، فسماه سرّقاً، وباعه بأربعة أبعرة»، والحرّ لا يباع، ثبت أنّه باع منافعه ولأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغنى بها، فكذلك في وفاء الدين منها، ولأنّ الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله في وفاء الدين منها‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ لا يجبر على الكسب إلا من في كسبه فضل عن نفقته ونفقة من يمونه‏.‏ وذهب اللخميّ من المالكية إلى أن يجبر على التكسّب إذا كان صانعاً وشرط عليه التكسّب في عقد الدين‏.‏

تكليف الصغير بالتكسّب

15 - ندب الإسلام إلى الاستغناء والتنزّه عن تكليف الصغير بالكسب، فقد أخرج مالك من حديث أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنّه سمع عثمان بن عفان وهو يخطب ويقول‏:‏ لا تكلّفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنّكم متى كلفتموها ذلك كسبت بفرجها، ولا تكلّفوا الصغير الكسب، فإنّه إذا لم يجد سرق، وعفّوا إذا أعفكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها‏.‏ وقال أبو الوليد الباجيّ ضمن تعليقه على أثر عثمان رضي الله عنه‏:‏ الصغير إذا كلّف الكسب، وأن يأتي بالخراج وهو لا يطيق ذلك، فإنّه ربما اضطره إلى أن يتخلص مما لزمه من الخراج بأن يسرق‏.‏

وقال ابن عبد البرّ في تعليقه على الأثر المذكور‏:‏ هذا كلام صحيح واضح المعنى، موافق للسّنّة، والقول في شرحه تكلّف‏.‏

التكسّب في المسجد

16 - يرى الحنفية والشافعية وبعض المالكية وابن عقيل من الحنابلة كراهة التكسّب بعمل الصّناعات مثل الخياطة في المسجد، ولا يكره من ذلك ما قل، مثل رقع ثوبه أو خصف نعله‏.‏

قال الزركشيّ نقلاً عن النّوويّ‏:‏ فأما من ينسخ فيه شيئاً من العلم، أو اتفق قعوده فيه فخاط ثوباً، ولم يجعله مقعداً للخياطة، فلا بأس به، وقال في الروضة‏:‏ يكره عمل الصنائع منه أي المداومة، أما من دخل لصلاة أو اعتكاف فخاط ثوبه لم يكره‏.‏

واستثنى الحنفية من الكراهة ما إذا كانت الصّناعة لأجل حفظ المسجد لا للتكسّب فقد جاء في الفتاوى الهندية‏:‏ الخياط إذا كان يخيط في المسجد يكره، إلا إذا جلس لدفع الصّبيان وصيانة المسجد، فحينئذ لا بأس به‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يحرم تكسّب بصنعة في المسجد ‏;‏ لأنّه لم يبن لذلك غير كتابة ‏;‏ لأنّ الكتابة نوع من تحصيل العلم‏.‏

وقال بعض المالكية‏:‏ إنّما يمنع في المساجد من عمل الصّناعات ما يختصّ بمنفعة آحاد الناس مما يتكسب به، فلا يتخذ المسجد متجراً، فأما إن كانت لما يشمل المسلمين في دينهم مثل المثاقفة ‏"‏ وهي الملاعبة لإظهار المهارة والحذق ‏"‏ وإصلاح آلات الجهاد مما لا مهنة في عمله للمسجد فلا بأس به‏.‏

وأما التكسّب في المسجد بالبيع والشّراء فيرى المالكية والشافعية على الأظهر وبعض الحنابلة كراهته، فقد ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا‏:‏ لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً فقولوا‏:‏ لا رد الله عليك»‏.‏

وفي جامع الذخيرة‏:‏ جوز مالك أن يساوم رجلاً ثوباً عليه أو سلعةً تقدمت رؤيتها، وقال الجزوليّ‏:‏ ولا يجوز البيع في المسجد ولا الشّراء، واختلف إذا رأى سلعةً خارج المسجد هل يجوز أن يعقد البيع في المسجد أم لا‏؟‏ قولان‏:‏ من غير سمسار، وأما البيع بالسّمسار فيه فممنوع باتّفاق‏.‏

ويرى الحنفية أنّه يمنع من البيع والشّراء وكلّ عقد لغير المعتكف في المسجد، ويجوز للمعتكف بشرط أن لا يكون للتّجارة، بل يكون ما يحتاجه لنفسه أو عياله بدون إحضار السّلعة‏.‏

وصرح الحنابلة بأنّه يحرم في المسجد البيع والشّراء ولا يصحان‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أنّ ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه‏.‏

ويرى الشافعية في قول أنّ البيع والشّراء في المسجد لا يكره بل يباح، ونقل الزركشيّ ترخيص بعض أهل العلم فيه‏.‏

الكسب الخبيث ومصيره

17 - طلب الحلال فرض على كلّ مسلم، وقد أمر الله تعالى بالأكل من الطيّبات، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏، وقال في ذمّ الحرام‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ولا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار»، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به»‏.‏

والحرام كلّه خبيث، لكنّ بعضه أخبث من بعض، فإنّ المأخوذ بعقد فاسد حرام، ولكنّه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغصوب أغلظ ‏;‏ إذ فيه إيذاء الغير وترك طريق الشرع في الاكتساب، وليس في العقود الفاسدة إلا ترك طريق التعبّد فقط، وكذلك المأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو يتيم أخبث وأغلظ من المأخوذ من قويّ أو غنيّ أو فاسق‏.‏

والكسب الخبيث هو أخذ مال الغير لا على وجه إذن الشرع، فيدخل فيه القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغيّ وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك‏.‏

والواجب في الكسب الخبيث تفريغ الذّمة والتخلّص منه بردّه إلى أربابه إن علموا، وإلا إلى الفقراء‏.‏

قال النّوويّ نقلاً عن الغزاليّ‏:‏ إذا كان معه مال حرام، وأراد التوبة والبراءة منه، فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميّتاً وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة كالقناطر والرّبط والمساجد ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء، وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفًا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضآمناً، بل ينبغي أن يحكّم رجلاً من أهل البلد ديناً عالماً، فإنّ التحكّم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإنّ المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراماً على الفقير، بل يكون حلالاً طيّباً، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيراً، لأنّ عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ‏;‏ لأنّه أيضاً فقير‏.‏

قال النّوويّ بعد أن نقل قول الغزاليّ المذكور‏:‏ وهذا الذي قاله الغزاليّ في هذا الفرع ذكره الآخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزاليّ أيضاً عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وغيره من السلف، وعن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبيّ وغيرهما من أهل الورع ‏;‏ لأنّه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين‏.‏

ومن ورث مالاً ولم يعلم من أين كسبه مورّثه‏:‏ أمن حلال أم حرام‏؟‏ ولم تكن علامة فهو حلال بإجماع العلماء‏.‏

وصرح الحنفية بأنّه إذا مات الرجل وكسبه خبيث، كأن كان من بيع الباذق أو الظّلم أو أخذ الرّشوة، فالأولى لورثته أن يردّوا المال إلى أربابه، فإن لم يعرفوا أربابه تصدقوا به ‏;‏ لأنّ سبيل الكسب الخبيث التصدّق إذا تعذر الردّ على صاحبه‏.‏

وفي البزازية‏:‏ إن علم المال الحرام بعينه لا يحلّ له ‏(‏للوارث‏)‏ أخذه، وإن لم يعلمه بعينه أخذه حكماً، وأما في الدّيانة فإنّه يتصدق به بنية الخصماء‏.‏

وذهب الشافعية إلى أنّ من ورث مالاً، وعلم أنّ فيه حراماً وشك في قدره، أخرج القدر الحرام بالاجتهاد‏.‏ ويمنع والي الحسبة الناس من الكسب الخبيث، قال الماورديّ‏:‏ ويمنع من التكسّب بالكهانة واللهو، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطي‏.‏

وللتفصيل ر‏:‏ ‏(‏حسبة ف / 34‏)‏‏.‏

كَسْر

التعريف

1 - من معاني الكسر في اللّغة‏:‏ قولهم كسر الشيء‏:‏ إذا هشمه وفرق بين أجزائه، والكسر من الحساب جزء غير تامّ من أجزاء الواحد كالنّصف والخمس‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، قال الجرجانيّ‏:‏ الكسر فصل الجسم الصّلب بدفع دافع قويّ من غير نفوذ جسم فيه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القطع‏:‏

2 - القطع إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلاً‏.‏

وفي الاصطلاح فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه‏.‏

فالكسر أعمّ والقطع أخصّ‏.‏

ب - الجرح‏:‏

3 - الجرح من جرحه جرحاً‏:‏ أثر فيه بالسّلاح‏.‏

فهو أخصّ من الكسر‏.‏

ج - الشجة‏:‏

4 - الشجة‏:‏ الجرح في الوجه، والرأس خاصةً، ولا يكون في غيرهما من الجسم‏.‏

فهي أخصّ من الكسر‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالكسر‏:‏

حكم كسر العظم

5 - كسر عظم محقون الدم بالإسلام أو الذّمة أو العهد ظلماً وعدواناً محظور، كحرمة الاعتداء على نفسه أو ماله إجماعاً‏.‏

ما يجب في كسر عظم الآدميّ

6 - ذهب الفقهاء إلى وجوب القود في كسر السّنّ عمداً، إذا تحققت فيه شروط القصاص، وأمن من الزّيادة على القدر المكسور، أو انقلاع السّنّ، أو اسوداد ما بقي منه، أو احمراره، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ‏}‏‏.‏

فإن لم يؤمن من الزّيادة فلا قود، ويجب فيه الأرش ‏;‏ لأنّ توهّم الزّيادة يمنع القصاص ‏(‏ر‏:‏ أرش، ف / 4 وما بعدها‏)‏‏.‏

واختلفوا فيما عداها من العظام‏:‏ فذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، إلى أنّه لا قود في كسر العظام ‏;‏ لعدم وثوق المماثلة فيها‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قصاص‏)‏‏.‏

وقال المالكية‏:‏ يجري فيها القود كسائر جراحات الجسم، إلا ما عظم خطره منها، كعظم الصدر، والصّلب، وعظام العنق والفخذ، أما ما لا خطر في إجراء القصاص فيه ففيه القود، كالزندين، والذّراعين، والعضدين، والساقين، ونحوها‏.‏

دية كسر العظم

7 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة‏:‏ إلى أنّه ليس في كسر العظم أرش مقدر شرعاً، وإنّما تجب فيه الحكومة، وهي ما يراه الحاكم أو المحكَّم بشرطه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ حكومة عدل ف / 4‏)‏‏.‏

واستثنوا منها السّنّ، ففيه أرش مقدر، وهو خمسة أبعرة للنصِّ ‏(‏ر‏:‏ سنّ ف / 10‏)‏‏.‏ واستثنى الحنابلة أيضاً‏:‏ الترقوتين، والزندين، والضّلع، ففيها أرش مقدر، قالوا‏:‏ وكان مقتضى الدليل وجوب الحكومة في العظام كلّها، وإنّما خالفناه لآثار وردت في هذه الأعظم، وما عداها يبقى على مقتضى الدليل، فيجب في الزندين أربعة أبعرة، وفي كسر الساق بعيران، وفي الساقين أربعة، وفي الفخذ بعيران‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن لم يجب في كسر العظم قصاص، وبرئ وعاد العضو لهيئه فلا شيء فيه، وإن برئ وفيه اعوجاج ففيه الحكومة ‏(‏ر‏:‏ ديات ف / 63 - ف 68، حكومة عدل ف / 4‏)‏‏.‏

كسر آلات اللهو والصّلبان وظروف الخمر

8 - اختلف الفقهاء في وجوب الضمان في كسر آلات اللهو، والصّلبان، وأوعية الخمر‏.‏ فذهب أبو حنيفة إلى أنّه إن كَسَرَ آلة لهوٍ صالحةً لغير اللهو ضمَن قيمتها صالحةً لغير اللهو‏;‏ لأنّها أموال متقومة صالحة للانتفاع بها لغير اللهو، فلم يناف الضمان‏.‏

فإن لم تصلح لغير اللهو لم يضمن شيئاً‏.‏

ويفهم من كلام المالكية أنّ آلات اللهو تضمن قيمتها مكسورةً‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ الأصنام والصّلبان وآلات الملاهي، والأواني المحرم اتّخاذها، غير مضمونة، فلا يجب في إبطالها شيء ‏;‏ لأنّ منفعتها محرَّمة، والمحرَّم لا يقابل بشيء مع وجوب إبطالها على القادر عليه‏.‏

والأصحّ عندهم أنّها لا تكسر الكسر الفاحش ‏;‏ لإمكان إزالة الهيئة المحرمة مع بقاء بعض المالية، بل تفصل لتعود كما قبل التأليف، لزوال اسمها وهيئتها المحرمة بذلك، فلا تكفي إزالة الأوتار مع بقاء الجلد اتّفاقاً ‏;‏ لأنّها مجاورة لها منفصلة‏.‏

والثاني لا يجب تفصيل الجميع، بل بقدر ما يصلح للاستعمال‏.‏

وقالوا إن عجز المنكر عن رعاية هذا الحدّ في الإنكار لمنع صاحب المنكر من يريد إبطاله لقوته، أبطله كيف تيسر ولو بإحراق تعين طريقاً، وإلا فبكسر، فإن أحرقها ولم يتعين غرم قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع، لتموّل رضاضها واحترامه، بخلاف ما لو جاوز الحد المشروع مع إمكانه، فإنّه لا يلزمه سوى التفاوت بين قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع وقيمتها منتهيةً إلى الحدّ الذي أتى به‏.‏

ومثل آلات اللهو في الأحكام‏:‏ أواني الخمر، وظروفها، إن تعذر إراقة الخمر لضيق رءوس الأواني، وخشية لحوق من يمنعه من إراقتها، فيكسر الظرف ولا شيء عليه، وكذا إن كانت إراقته تأخذ من وقته زمناً غير تافه، تتعطل فيه مصالحه إذا شغل بكسرها، هذا للآحاد، أما الولاة، فلهم كسر ظروفها مطلقاً زجراً وتأديباً‏.‏

وقال الحنابلة وأبو يوسف ومحمد من الحنفية‏:‏ لا يجب في كسرها شيء مطلقاً، كالميتة، لحديث‏:‏ «إنّ الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير، والأصنام»، وورد‏:‏ «أمرني ربّي عز وجل بمحق المعازف والمزامير» وكذا آنية الذهب والفضة، فلا يضمن إن كسرها ‏;‏ لأنّ اتّخاذها محرم وفي ضمان أواني الخمر روايتان عن أحمد، إحداهما‏:‏ يضمنها، لأنّه مال يمكن الانتفاع به ويحلّ بيعه، فيضمنها، كما لو لم يكن فيها خمر، لأنّ جعل الخمر فيها لا يقتضي سقوط ضمانها، كالبيت الذي جعل مخزناً للخمر، والثاني‏:‏ لا يضمن، لما روي أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية - وهي الشفرة - فأتيته بها فأرسل بها فأرهَقْت ثم أعطانيها، وقال‏:‏ اغد عليّ بها ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق خمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية منّي، فشق ما كان من تلك الزّقاق بحضرته وأعطانيها، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقّاً إلا شققته»‏.‏

الكسر في سهام الورثة من التركة

9 - إذا لم تقبل القسمة سهام بعض الورثة الحاصلة من أصل المسألة المستحقة على مستحقّيها إلا بكسر، يصحح الكسر بجعل السّهام قابلةً للقسمة على الورثة بدون كسر، وتصحيح المسألة‏:‏ أن يضرب أصل المسألة إن عالت في أقلّ عدد يمكن معه أن يأخذ كلّ وارث بقدر من السّهام بلا كسر، وحاصل الضرب هو أصل المسألة بعد التصحيح، ويتمّ ذلك وفق قواعد تذكر في مصطلح ‏(‏إرث ف / 72‏)‏‏.‏

كُسوف

انظر‏:‏ صلاة الكسوف‏.‏

كُِسْوَة

التعريف

1 - الكسوة - بضمّ الكاف وكسرها - في اللّغة‏:‏ الثوب يستتر به ويتحلى، والجمع كسًى، مثل مدًى، والكساء‏:‏ اللّباس، والجمع أكسية، يقال‏:‏ كسوته ثوباً إذا ألبسته، والكاسي خلاف العاري، وجمعه كساة، ومنه قولهم‏:‏ أم قوماً عراةً وكساةً‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ‏.‏

الحكم التكليفيّ

يختلف الحكم التكليفيّ للكسوة بحسب أحوالها، ومن ذلك‏:‏

أولاً - كسوة الزوجة على زوجها

2 - أجمع الفقهاء على أنّه تجب الكسوة للزوجة على زوجها إذا مكنته من نفسها على الوجه الواجب عليها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏‏.‏ ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهنّ»‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»‏.‏ ولأنّ الكسوة لا بد منها على الدوام، فلزمته كالنفقة، كما أجمعوا على أنّه يجب أن تكون الكسوة كافيةً للمرأة، وأنّ هذه الكفاية تختلف باختلاف طولها وقصرها وسمنها وهزالها، وباختلاف البلاد التي تعيش فيها في الحرّ والبرد‏.‏

3 - ولكنّ الفقهاء اختلفوا في بعض التفاصيل‏:‏

فذهب الحنفية إلى أنّ الكسوة يعتبر فيها حال الزوج في يساره وإعساره لا حال المرأة، هذا في ظاهر الرّواية، والفتوى على أنّ النفقة عامة تجب بحسب حال الزوجين معاً‏.‏

فعلى ظاهر الرّواية إذا كان الزوج معسراً يكسوها أدنى ما يكفيها من الملابس الصيفية والشتوية، وإن كان متوسّطاً يكسوها أرفع من ذلك بالمعروف، وإن كان غنيّاً كساها أرفع من ذلك بالمعروف‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ وإنّما كانت الكسوة بالمعروف لأنّ دفع الضرر عن الزوجين واجب، وذلك في إيجاب الوسط من الكفاية، وهو تفسير المعروف، فيكفيها من الكسوة في الصيف، قميص وخمار وملحفة وسراويل على قدر حاله من الخشونة واللّيونة والوسطية‏.‏

فالخشن إذا كان الزوج من الفقراء، والليّن إذا كان من الأغنياء، والوسط إذا كان من الأوساط، وذلك كلّه من القطن والكتان على حسب عادة البلدان، إلا الخمار، فإنّه يفرض على الغنيّ خمار من حرير، ويجب لها كذلك مداس رجلها والإزار، والمكعب وما تنام عليه، وتزاد على ذلك جبة حشويّاً وفروة، لحافاً وفراشاً، وكلّ ما يدفع به أذى الحرّ والبرد، فيجب في الشّتاء جبة وخفّ وجورب لدفع البرد الشديد، ويختلف ذلك باختلاف الأماكن والأزمان والبلدان والأعراف‏.‏

وتفرض الكسوة للزوجة عند الحنفية في كلّ نصف حول مرةً ‏;‏ لتجدّد الحاجة حرّاً وبرداً، ويجب تسليم الكسوة إليها في أول هذه المدة ‏;‏ لأنّها تستحقّها معجلةً لا بعد تمام المدة، إلا أنّه لا يجب عليه أن يجدّد الكسوة ما لم يتخرق ما عندها، فإذا مضت هذه المدة وبقي ما عندها صالحاً لم تجب عليه كسوة أخرى ‏;‏ لأنّ الكسوة في حقّه باعتبار الحاجة ولهذا يجب عليه أن يصرف لها كسوةً أخرى إذا تخرقت القديمة بالاستعمال المعتاد قبل مضيّ المدة المذكورة ‏;‏ لظهور الخطأ في التقدير، حيث وقت وقتاً لا تبقى معه الكسوة‏.‏

أما إذا أسرفت في الاستعمال على وجه غير معتاد، أو سرق منها، أو هلك عندها قبل مضيّ المدة، فلا يجب عليه لها كسوة أخرى‏.‏

وذهب المالكية، إلى مثل ما ذهب إليه الحنفية في ظاهر الرّواية، فقالوا‏:‏ وتقدر الكسوة في السنة مرتين، بالشّتاء ما يناسبه من فرو ولبد ولحاف وغير ذلك، وبالصيف ما يناسبه، وهذا إذا لم تناسب كسوة كلّ من الصيف والشّتاء الآخر عادةً، وإلا كفت واحدة إذا لم تخلق، قالوا‏:‏ ومثل ذلك الغطاء والوطاء صيفاً وشتاءً‏.‏

وذهب الشافعية والحنابلة، إلى أنّ كسوة الزوجة على قدر كفايتها ‏;‏ لأنّها ليست مقدرةً من الشرع، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم عند المنازعة، فيفرض لها على قدر كفايتها‏.‏

قال الشافعية‏:‏ يجب للزوجة على زوجها في كلّ ستة أشهر قميص، وهو ثوب مخيط يستر جميع البدن - وخياطته على الزوج - وسراويل - وهو ثوب مخيط يستر أسفل البدن ويصون العورة - وقد يقوم الإزار أو الفوطة مقام السراويل إذا اعتادت المرأة على لبسهما‏.‏ وخمار، وهو ما يغطى به الرأس، ومكعب، وهو مداس الرّجل من نعل أو غيره، ويجب لها القبقاب إن اقتضاه العرف‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ ولو جرت عادة نساء أهل القرى أن لا يلبسن في أرجلهنّ شيئاً في داخل البيوت لم يجب لأرجلهنّ شيء‏.‏

ويزاد في الشّتاء وفي البلاد الباردة جبة محشوة قطناً، فإن اشتد البرد فجبتان فأكثر بقدر الحاجة لدفع البرد، وقد يقوم الفرو مقام الجبة إذا جرت عادة أهل البلد على لبسها‏.‏

ويجب لها توابع ما ذكرناه، من كوفية للرأس، وتكة للّباس، وزرّ للقميص والجبة ونحوهما، وقالوا‏:‏ لا يختلف عدد الكسوة باختلاف يسار الزوج وإعساره، ولكنّهما يؤثّران في الجودة والرداءة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وأقلّ الكسوة الواجبة قميص وسراويل ومقنّعة ومداس وجبة للشّتاء، ويزيد من عدد الثّياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غنى عنه، دون ما للتجمّل والزّينة‏.‏

فيفرض مثلاً للموسرة تحت الموسر من أرفع الثّياب في البلد، من الكتان، والحرير، والإبريسم، وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان، وللمتوسّطة تحت المتوسّط المتوسّط من الثّياب، وهكذا يكسوها ما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة‏.‏

ثم قال الحنابلة‏:‏ على الزوج أن يدفع الكسوة إلى زوجته في كلّ عام مرةً ‏;‏ لأنّ ذلك هو العادة، ويكون الدفع في أول العام ‏;‏ لأنّه أول وقت الوجوب فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه أن يدفع إليها كسوةً أخرى ‏;‏ لأنّ ذلك وقت الحاجة إليها، وإن بليت قبل ذلك لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها لم يلزمه إبدالها، لأنّه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف‏.‏

وإن مضى الزمان الذي تبلى في مثله الثّياب بالاستعمال المعتاد ولم تبل، فهل يلزمه بدلها‏؟‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يلزمه بدلها لأنّها غير محتاجة إلى الكسوة‏.‏

ثانيهما‏:‏ يلزمه البدل لأنّ الاعتبار بمضيّ الزمان دون حقيقة الحاجة، بدليل أنّها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها‏.‏

ولو أهدى إليها كسوةً لم تسقط كسوته‏.‏

4 - واختلف الفقهاء فيها لو كساها ثم طلقها أو مات أو ماتت قبل أن تبلى الثّياب، فهل له أن يسترجعها‏؟‏ فذهب الحنفية والمالكية وهو الأصحّ عند الشافعية وأحد الوجهين عند الحنابلة، إلى أنّه ليس له أو لورثته الاسترجاع، لأنّه وفاها ما عليه ودفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه، فلم يكن له الرّجوع فيها، كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها، إلا أنّ المالكية اشترطوا مضي أكثر من شهرين بعد دفع الكسوة إليها، فإذا مات أحدهما أو طلقها لشهرين أو أقل، فله استرجاع الكسوة منها‏.‏

ومقابل الأصحّ عند الشافعية والوجه الثاني عند الحنابلة، أنّ له استرجاع الكسوة منها، لأنّ هذه الكسوة لمدة لم تأت، كنفقة المستقبل، فإذا طلقها قبل مضيّه كان له استرجاعها، كما لو دفع إليها نفقة للمستقبل ثم طلقها قبل انقضاء المدة، وعليه فلو أعطاها كسوة سنة فماتت أو طلقها في أثناء الفصل الأول استرد كسوة الفصل الثاني، كالزكاة المعجلة‏.‏

ولو لم تقبض الكسوة حتى ماتت في أثناء فصل أو طلقت فيه، استحقت كسوة كلّ الفصل كنفقة اليوم ‏;‏ لأنّ الكسوة تستحقّ بأول الفصل‏.‏

وإن لم يعطها الكسوة مدةً من الزمن صارت ديناً عليه يجب قضاؤها وإن كان فقيراً، حكم بها قاض أو لم يحكم‏.‏

وفي قول عند الشافعية‏:‏ لا يكون ديناً عليه، لأنّ الكسوة مجرد إمتاع للمرأة، وليس تمليكاً لها، كالمسكن والخادم، بجامع الانتفاع في كلّ مع بقاء العين، بخلاف الطعام، وهذا مذهب الحنفية، إلا إذا استدانت عليه بأمر القاضي، فإن استدانت عليه بأمر القاضي صارت ديناً عليه‏.‏

أما المالكية فقالوا‏:‏ إن لم يعطها الكسوة بسبب إعساره، فلا تكون ديناً عليه وإن أيسر بعد ذلك‏.‏

أما إذا كان غنيّاً ومرت مدة لم يعطها الكسوة، فتجب في ذمته، أي تصير ديناً عليه، سواء فرضها حاكم أو لم يفرض‏.‏

5- واختلفوا أيضاً فيما إذا أ أعسر الزوج عن كسوة الزوجة‏؟‏ فذهب المالكية، والشافعية على الأظهر، والحنابلة، إلى أنّه إن أعسر الزوج بكسوة زوجته فللزوجة الفسخ إن لم تصبر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏‏.‏

فإذا عجز عن الأول - وهو الإمساك بالمعروف - تعين الثاني ‏;‏ ولأنّ الكسوة لا بد منها ولا يمكن الصبر عنها ولا يقوم البدن بدونها‏.‏

قال الشّربينيّ‏:‏ سكت الشيخان عن الإعسار ببعض الكسوة، وأطلق الفارقيّ أنّ لها الفسخ، والتحرير فيها كما قال الأذرعيّ‏:‏ ما أفتى به ابن الصلاح، وهو‏:‏ أنّ المعجوز عنه إن كان مما لا بد منه، كالقميص والخمار وجبة الشّتاء، فلها الخيار، وإن كان منه بدّ كالسراويل والنّعل وبعض ما يفرش والمخدة، فلا خيار‏.‏

واتفق الجمهور على أنّه إذا ثبت العجز عن الكسوة لم يفرق بينهما إلا بحكم حاكم، ولا يجوز للحاكم أن يفرّق بينهما إلا إذا طلبت المرأة ذلك ‏;‏ لأنّ هذا من حقّها، فلها أن تصبر وترضى بالمقام معه‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنّه لا يفرق بينهما بسبب عجزه عن الكسوة، بل يفرض الحاكم لها الكسوة ثم يأمرها بالاستدانة لتحيل عليه‏.‏

ثانياً‏:‏ الكسوة الواجبة للقريب

6 - ذهب الفقهاء إلى وجوب كسوة القريب الذي تجب نفقته، بشرط اليسار، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏‏.‏

ولا شك أنّ كسوتها من الإحسان الذي أمرت به الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ‏}‏‏.‏

ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهند رضي الله عنها‏:‏ «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف»‏.‏

والواجب في كسوة القريب هو قدر الكفاية، لأنّها وجبت للحاجة، فتقدر بما تندفع به الحاجة، مع اعتبار سنّه وحاله وعادة البلد‏.‏

قال ابن جزيّ من المالكية‏:‏ ويكون قدرها - أي الكسوة - وجودتها على حسب حال المنفق وعوائد البلاد‏.‏

ثالثاً‏:‏ الكسوة الواجبة في كفارة اليمين

7 - أجمع الفقهاء على أنّ كسوة عشرة مساكين أحد أنواع كفارة اليمين، وأنّ الحالف مخير بين العتق والإطعام والكسوة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏‏.‏

ولكنّهم اختلفوا في القدر المجزئ من الكسوة فذهب المالكية والحنابلة ومحمد من الحنفية، إلى أنّها تتقدر بما تصحّ به الصلاة فيه، فإن كان رجلاً فثوب تجزئ الصلاة فيه، وإن كانت امرأةً فدرع وخمار، أي ما تصحّ صلاتها فيه، وذهب الحنفية غير محمد إلى أنّ كسوة المسكين تتقدر بما يصلح لأوساط الناس، ولا يعتبر فيه حال القابض، وقيل‏:‏ يعتبر في الثوب حال القابض، إن كان يصلح له يجوز وإلا فلا‏.‏

وبما ينتفع به فوق ثلاثة أشهر ‏;‏ لأنّها أكثر من نصف مدة الثوب الجديد، وعليه فلا يشترط أن يكون جديداً‏.‏

وبما يستر عامة البدن كالملاءة أو الجبة أو القميص أو القباء، لا السراويل ‏;‏ لأنّ لابسه يسمى عرياناً، ولا العمامة ولا القلنسوة إلا باعتبار قيمة الإطعام‏.‏

وذهب الشافعية إلى أنّه يجزئ في الكسوة الواجبة بسبب الكفارة كلّ ما يسمى كسوةً مما يعتاد لبسه، كقميص أو عمامة أو إزار أو رداء أو طيلسان أو منديل أو جبة أو قباء أو درع من صوف، لا خفّ وقفازان ومكعب وقلنسوة‏.‏

ولا يشترط صلاحيته للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغير لكبير لا يصلح له ‏;‏ لوقوع اسم الكسوة عليه، ويجوز لبيس لم تذهب قوته، فإن ذهبت قوته فلا يجوز، ولا يجوز نجس العين من الثّياب، ويجوز المتنجّس منه لأنّه يمكن تطهيره، وعليه أن يخبر من يعطيه إياها بتنجّسها حتى يطهّرها منها‏.‏